سورة العنكبوت - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


{يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}.
مناسبة هذه الآية والآيات التي بعدها للآيات السابقة، أن الآيات السابقة كانت حديثا إلى المشركين من قريش، وما يتحدون به رسول اللّه من إنزال آية مادية عليهم، ومن استعجال العذاب الذي يتهددهم به- فجاءت الآيات بعد هذا حديثا إلى المسلمين الذين كانوا قلة مستضعفة في مكة، يلقاهم المشركون بالضر والأذى، ويأخذون عليهم كل سبيل إلى الاجتماع بالرسول، أو الصلاة في المسجد الحرام، أو الجهر بتلاوة القرآن... إلى غير ذلك مما كانت تضيق به صدور المسلمين، وتختنق به مشاعر الإيمان في كيانهم، وتختفى به مظاهره على ألسنتهم وجوارحهم- جاءت هذه الآيات لتفتح للمسلمين طريقا رحبا إلى النجاة من هذا الضيق، والخلاص من هذا البلاء.
إن أرض اللّه واسعة، وإذا ضاقت أرض بإنسان فإن من الخير له أن يتحول عنها إلى غيرها، حيث يجد في الأرض مراغما كثيرة وسعة.
وفي قوله تعالى: {يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا}.
وفي إضافة الذين آمنوا إلى اللّه سبحانه وتعالى، وندائهم إليه من ذاته جل وعلا- في هذا احتفاء بهم، واستضافة لهم في رحاب رحمة اللّه وفضله وإحسانه.. وذلك لأنهم مدعوون إلى الهجرة من ديارهم، والانفصال عن أهلهم وإخوانهم، وذلك أمر شاق على النفس، ثقيل الوطأة على المشاعر، التي ارتبطت بالموطن ارتباط العضو بالجسد.
فكان من لطف اللّه سبحانه بعباده هؤلاء المؤمنين، الذين دعاهم إلى الهجرة من ديارهم- أن استضافهم في رحابه، وأنزلهم منازل رحمته وإحسانه، بهذا الدعاء الرحيم، الذي دعاهم به سبحانه، إليه... {يا عبادى}.
فمن استجاب منهم لهذا النداء، وأقبل على اللّه مهاجرا إليه بدينه، تلقّاه اللّه سبحانه بالفضل والإحسان، وأنزله منزلا خيرا من منزله، وبدّله أهلا خيرا من أهله!.
وقد استجاب المسلمون لهذا النداء، فخرجوا مهاجرين إلى اللّه، أفرادا وجماعات، وكانت الحبشة أول متجه اتجه إليه المسلمون المهاجرون، فأنزلهم اللّه أكرم منزل، هناك.. ثم كانت الهجرة إلى المدينة، التي أصبحت مهاجر المسلمين من كل مكان، بعد أن هاجر الرسول الكريم إليها.
وهناك وجد المهاجرون إخوانا، شاطروهم دورهم وأموالهم، وآثروهم على أنفسهم بالطيب من كل شىء.
وأكثر من هذا، فإن مجتمع المهاجرين هؤلاء الذين ضمتهم مدينة الرسول، كانوا الوجه الذي تجلى فيه دين اللّه، وعزت به شريعته.. ومن هؤلاء المهاجرين، كان صحابة رسول اللّه، وخلفاء رسول اللّه.
وأكثر من هذا أيضا، فإن القرآن الكريم، قد أجرى ذكرا خالدا لهؤلاء المهاجرين، وأشار إلى منزلتهم العليا عند اللّه، وما أعد لهم من أجر عظيم، وثواب كريم، لم يشاركهم في هذا أحد من المسلمين، إلا الأنصار، الذين نزل المهاجرون ديارهم، ووجدوا ما وجدوا من برهم وإحسانهم.
وهكذا، استظل المهاجرون بظل هذا النداء الكريم... {يا عبادى} فكانوا منه في نعمة سابغة، وفضل عظيم، في الدنيا والآخرة جميعا.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ}.
.. توجيه لأنظار المسلمين إلى سعة ملك اللّه سبحانه وتعالى، وإلى أن يمدوا أبصارهم إلى أبعد من هذا الأفق الضيق المحدود، الذي يعيشون فيه، والذي يحسب كثير منهم أن الأرض كلها محصورة في هذه الرقعة التي يتحركون عليها، ويضطربون فيها.. وكلا فإن أرض اللّه واسعة، أكثر مما يتصورون... فليخرجوا من محبسهم هذا، ولينطلقوا في فجاج الأرض، الطويلة العريضة، وسيجدون في منطلقهم هذا، سعة من ضيق، وعافية من بلاء.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [100: النساء].
وقوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}.
... أي فاجعلوا عبادتكم لى وحدي، لا تشركون بعبادتي أحدا.
والفاء في قوله تعالى: {فَإِيَّايَ}.
تفيد السببية.. حيث كشف قوله تعالى: {إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ}.
عن إضافة هذه الأرض إلى اللّه سبحانه، كما كشف عن سعة هذه الأرض، وأن أي مكان ينزل منها الإنسان فيه، هو في ملك اللّه... وإذ كان ذلك كذلك، وجب أن يفرد وحده سبحانه بالعبادة، كما أفرد جل شأنه بالملك.
هذا، والآية الكريمة دعوة سماوية إلى تحرير الإنسان، جسدا، وعقلا، وقلبا، وروحا، من كل قيد مادى، أو معنوى، يعطل حركته، أو يعوق انطلاقه، أو يكبت مشاعره، أو يصدم مشيئته، أو يقهر إرادته.
ففى أي موقع من مواقع الحياة، وعلى أي حال من أحوالها، لا يجد فيه الإنسان وجوده كاملا محررا من أي قيد، ثم لا يعمل جاهدا على امتلاك جريته كاملة- يكون ظالما لنفسه، معتديا على وجوده.
وإذا كانت دعوة الإسلام قد جاءت لتحرير الإنسانية من ضلالها، وفرضت على المؤمنين أن يجاهدوا الضلال والضالين، وأن يبذلوا في سبيل ذلك دماءهم وأموالهم، فإن الجهاد الحق في أكرم منازله، وأعلى درجاته، هو الجهاد في تحرير المؤمن نفسه أولا، وفي تخليصها من كل قيد يمسك بها على مربط الذل والهوان، ويحملها على أن تطعم من مطاعم الذلة والمهانة، وفي هذا يقول اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ!! قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً} [97: النساء].
فلقد توعدهم اللّه سبحانه وتعالى بالعذاب الأليم في الآخرة، لأنهم باستخزائهم وضعفهم، قد باعوا دينهم، واسترخصوا مروءتهم، فكانوا سلعة في يد الأقوياء، لا يملكون معهم كلمة حق يقولونها، ولا يجدون من أنفسهم القدرة على دعوة خير يدعون بها... وإنه هيهات أن يسلم لإنسان دين أو خلق، إلا إذا تحرر من كل ضعف واستعلى على كل خوف.
ومن هنا كانت دعوة الإسلام متجهة كلها إلى تحرير الإنسان، عقلا وقلبا وروحا، كما كانت دعوته إلى تحرير الإنسان وجودا وجسدا.
وقد يكون الإنسان حرا طليقا في المجتمع الذي يعيش فيه، لا يرد عليه من الجماعة وارد من ضيم أو ظلم، ومع هذا فهو أسير شهواته، وعبد نزواته، وتبيع هواه... لا يملك من أمر وجوده شيئا... ومن هنا كان أول ما يجاهد الإنسان هو جهاد النفس، والأهواء المتسلطة عليه منها، وهذا ما قصد إليه الرسول الكريم من قوله، وقد عاد من إحدى غزواته: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا يا رسول اللّه: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس».
قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ}.
هو تهوين من شأن الدنيا في عين المؤمنين الذين يتهيّئون للهجرة.. فقد يحضر كثيرا منهم- وهو يأخذ عدته للهجرة- وارد من واردات الإشفاق على الأهل والولد، وما يلقى من لهفة وحنين لفراقهم، وما يجدون هم من أسى وحسرة لبعده عنهم.. إلى غير ذلك مما يقع للمرء من تصورات وخواطر في مثل هذا الموقف- فجاء قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ} مهوّنا من شأن هذه الحياة الدنيا، فإن نهاية كل حىّ فيها هو الموت.. وإذ كان ذلك هو شأنها، فإنّ التعلق بها وبأهلها، وبأشيائها، هو متاع إلى حين، ثم ينصرم الحبل بين الإنسان وبين كل ما يمسك به من هذه الدنيا، طال الزمن أو قصر- فإذا كان ما يمسك الإنسان من هذه الدنيا شيء يحول بينه وبين الطريق إلى اللّه، وإلى ما عند اللّه من ثواب عظيم وأجر كريم- فإن هذا الشيء مهما غلا، هو عرض زائل، وظل حائل، لا حساب له إلى جانب الباقيات الصالحات، وما وعد اللّه سبحانه عليها، من رضوان وجنّات فيها نعيم مقيم.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
فهذه هى الحياة الباقية، التي ينبغى للإنسان أن يعمل لها، ويحرص الحرص كلّه على ألّا يعوّقه شىء- أيّا كان- عن السعى في تحصيل كل ما هو مطلوب لها... فالذين آمنوا باللّه، وعملوا الصالحات، موعودون من اللّه سبحانه وتعالى أن ينزلهم من الجنة أكرم منازلها، وأن يحلّهم منها في غرفات يجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها، لا يتحولون عنها... وذلك هو جزاء العاملين، وإنه لنعم الجزاء.
وإن أبرز صفات العالمين، الذين يداومون على العمل ويحسنونه، هو الصبر، والتوكل على اللّه، فبالصبر يقهر الإنسان كل دواعى الضعف والتخاذل، وبالتوكل على اللّه والتسليم له، وتفويض الأمور إليه، يحلو المرّ، ويستساغ الضرّ... وبهذا يظل العامل آخذا مكانه في موقع العمل، فيما يرضى اللّه، لا يتحول عنه أبدا.
وفي قوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} وعد مؤكد، بالقسم، ونون التوكيد... وليس وعده سبحانه في حاجة إلى توكيد، فهو محقق لا شك فيه... ولكن لتطمئن قلوب المؤمنين، ولتثبت أقدامهم على الطريق الشاق الذين يأخذونه إلى الهجرة، وما يعترضهم عليه من دواعى الإشفاق من فراق الأهل والولد.
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
هو تطمين لقلوب المسلمين المدعوين إلى الهجرة، والذين استجابوا لها، وأعدّوا العدة لإمضائها، أو للذين هم قد هاجروا فعلا، وانقطعت موارد رزقهم التي كانت في أيديهم، بين أهلهم وفي ديارهم... وإنه لن يأسى المسلمون على ما تركوا وراءهم من مال ومتاع، ولن يهتمّوا كثيرا لأمر المعاش، ولن يشغلوا به... فاللّه سبحانه الذي يرزق الدواب في القفار، والطيور في السماء، هو الذي يتكفل بأرزاق الناس، وأن سعيهم في وجوه الأرض، وما يبذلون من حول وحيلة، إنما هو أسباب موصلة إلى ما قدّر اللّه لهم من رزق... ولن ينال أحد مهما جدّ وسعى غير ما هو مقدور له.
وقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} إشارة إلى أن كثيرا من الدواب لا تستطيع أن تحمل رزقها، أي تحصّله بنفسها، وتصل إليه بسعيها.. وأقرب مثل لهذا مواليد الحيوان، حيث سخّر اللّه لها الأمهات والآباء لتعمل على إطعامها، بل وتزقّه في فمها، وتلقيه في جوفها.. وإذا بدا لنا أن بعض الدواب كالأسود والذئاب ونحوها قادرة على انتزاع غذائها من الحياة، فإن ذلك لا يعدو في حقيقته أن يكون رضاعة من ثدي الطبيعة التي خلقها اللّه على هذا النظام البديع المعجز، الذي يجد فيه كل كائن رزقه الذي يحفظ عليه وجوده.. وكذلك الناس بين أقوياء وضعفاء، وبين ذوى حيلة ومن لا حيلة لهم... كلهم جميعا يرزقون من فضل اللّه، ويحصلون على ما قدّر لكل منهم من رزق... وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ}.
أي فكما ترزق هذه الدوابّ التي لا حيلة لها في تحصيل قوتها، كذلك ترزقون أنتم أيها المهاجرون، وقد بدا لكم أنه قد انقطعت عنكم أسباب معيشتكم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} [6: هود].
وقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي سميع لما تدعون به من حاجاتكم، عليم، بما تحتاجون إليه، وإن لم تسألوا شيئا.


{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
بعد هذه الوقفة مع هؤلاء المؤمنين الذين حملهم المشركون على الهجرة من أوطانهم، بما أخذوهم به من بأساء وضراء- عادت الآيات لتلقى المشركين بقدائفها المدمّرة، التي تدكّ بها حصون الشرك، وتهدم قلاعه، بحجتها الدامغة، وبيانها المبين.
فالمشركون هنا، في مواجهة سؤال، هو: {مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}؟
وإنه لا يجرؤ أحد منهم أن يجيب بأن آلتهم تلك الجاثمة على الأرض، هى التي حلقت السموات والأرض، وأنها هى التي سخرت الشمس والقمر.
فمن إذن الذي خلق؟ ومن الذي سخّر؟ جواب واحد، هو اللّه الذي خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر... إنهم لا ينكرون هذا، ولا سبيل لهم إلى إنكاره.. وإذن فكيف يصرفون وجوههم عن اللّه، ويقبلون على هده الدّمى يعبدونها من دونه؟ أليس هذا سفها وضلالا؟ وبلى إنه السّفه والضلال والضّياع أيضا.
وقوله تعالى: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} هو تعقيب على هذا السؤال، وعلى الجواب الذي أجابوا به نطقا، أو إلجاء، وإلزاما، إذ لا جواب لهم غيره! {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}.
وأنّى، بمعنى كيف، ويؤفكون، من الإفك، وهو الانصراف عن وجه الحق إلى الضلال.
قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
هذه الآية تعقيب على ما تقرر في الآية السابقة من استسلام المشركين لما ألزمتهم به من حجة، لم يجدوا معها سبيلا إلا الإذعان والإقرار، بأن اللّه سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر.
وإذا كان ذلك كذلك على ما أقروا به، فليعلموا إذن أن اللّه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، ويقدر له، فيوسع الرزق لمن يشاء، ويقدره أي يضيقه على من يشاء، حسب علمه، وحكمته.. {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فلا يفعل ما يفعل إلا عن علم، وما كان فعلا عن علم، فهو أصلح الأفعال، وأنسبها، وأعدلها، وأحكمها.
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}.
وهذا سؤال آخر يسأله المشركون: {مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها؟} فما جوابهم على هذا؟.
لقد أقروا- طوعا أو كرها- أن اللّه هو الذي خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر.. إذ كان ذلك أمرا لا يمكن المجادلة فيه، ولا يجد معه أي عقل- مهما لج في الضلال والعناد- سبيلا إلى المماراة، والتمحك.
وعلى هذا، فإنه وقد سلّم بأن اللّه هو الذي خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر، لا بد أن يسلّم بأنه سبحانه هو الذي يملك كل ما في السموات وما في الأرض، وأنه هو سبحانه الذي يصرّف كل شيء فيهما.
فما ينزل من السماء من ماء، فهو من أمر اللّه، ومن قدرته، وتدبيره.. وما يحدث هذا الماء من آثار في الأرض، فهو من أمر اللّه، ومن قدرته، وتدبيره.
وإذن، فلا جواب لهؤلاء المشركين إلا الإقرار، بأن اللّه هو الذي نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها.. فهذا من ذاك، أو من بعض ذاك.
وقوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} هو تعقيب على هذا الإقرار، الذي ألجأ المشركين إليه، ما طلع عليهم من آيات اللّه، فأنوا إليه مذعنين.
وهذا مما يجدد للمؤمن نظرا إلى نعم اللّه، حيث قهر جلالها المشركين الضالين، فاعترفوا برب هذه النعم، وأضافوها إليه.. وإن الحمد والولاء للّه، هو ما ينبغى أن يسبّح به المؤمن في هذا المقام، مقام تلك النعمة الجليلة، وهى نزول الماء من السماء، وما لهذا الماء من آثار في بعث الحياة في الحياة!.
والأمر هنا في قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} هو للنبى صلى اللّه عليه وسلم، ولكل مؤمن، يتلقى هذا الجواب، على هذا السؤال: من نزل من السماء ماء فأحيا به على الأرض من بعد موتها؟ سواء أكان الجواب على هذا السؤال واردا عليه من ذات نفسه، وهو يدير نظره في هذا الوجود، أو تلقاه من غيره، جوابا على سؤال! وفى قوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} إشارة إلى ما ركب كثيرا من هؤلاء المشركين من جهل، وما تغشّاهم من ضلال... وأنهم لا يرون الحق الذي تلوح أماراته لأعينهم، ثم إنهم إذا بصّروا به، وأبصروه، لم يتقبلوه، واتهموا أنفسهم، وارتابوا في معطيات أبصارهم، وقالوا كما ذكر القرآن: {إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [15: الحجر].
فهذا الحمد الذي ينطق به الوجود كله، تسبيحا، وولاء للّه، لا يدرك المشركون دلالته، لأنهم لا يعقلون ما ينبغى للّه من تنزيه عن الشريك والولد.
قوله تعالى: {وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.
إن الذي يغطّى على أبصار هؤلاء المشركين، ويعمّى عليهم الطريق إلى الحق، هو اشتغالهم بهذه الدنيا، وتنافسهم على متاعها، واستهلاك أنفسهم في الجري اللاهث وراء لذاذاتها وشهواتها. ولو أنهم تخففوا قليلا من تعلقهم بالحياة، ونظروا إليها على أنها طريق إلى حياة أخرى، أخلد وأبقى- لو أنهم فعلوا هذا لكان شأنهم مع آيات اللّه وكلماته، غير شأنهم هذا، ولوجدوا لدعوة لرسول آذانا تسمع، وعقولا تعقل، وقلوبا تتقبل ما تعقله العقول.
ولهذا جاء قوله تعالى: في هذه الآية، كاشفا عن حقيقة دنيا المشركين هذه، التي فتنوا بها، وسكروا من خمرها. فما هى في حقيقتها إلا لهو ولعب، لا يشغل نفسه بها إلا لاعب لاه، شأنه في هذا شأن الصغار، الذين يعيشون لساعتهم، في مرح معربد، ولهو صاحب، غير ملتفتين إلى أي شيء وراء هذا.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ} هو عرض للجانب الآخر من حياة الإنسان، وهو الجانب الحق، الجدير بأن يلتفت الإنسان إليه، ويعمل له.. إنه المستقبل الذي ينتظره، والذي يأخذ فيه مكانه بين الناس وينزل منه منزلته، حسب ما قدم لهذا المستقبل من جهد، وما بذل من عمل.
تماما كما هو الشأن في حياة الإنسان في هذه الدنيا، فإن مكانه في الرجال، ومنزلته في الناس إنما تتحدد بما كان منه من سعى وعمل في دور الصبا والشباب... فإذا لها المرء في صباه، وعبث في شبابه، أسلمه ذلك إلى حياة ضائعة وإلى مستقبل أسود كئيب!
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا *** ندمت على التفريط في زمن البذر
وفى قوله تعالى: {لَهِيَ الْحَيَوانُ} بدلا من لهى الحياة إشارة إلى أن الحياة الآخرة هى الحياة، بل هى أصل الحياة، وما سواها من حيوات، ظل لها، أو فرع منها.
وقوله تعالى: {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.
اتهام لهؤلاء المشركين بالجهل والغباء، وأنهم لو كانوا على شيء من العلم لما عموا عن هذه الحقيقة، ولما آثروا الفانية على الباقية، ولما اشتروا الضلالة بالهدى... فإن العاقل العالم، من شأنه أن يميز الخبيث من الطيب، ويفرق بين الغث والثمين.
قوله تعالى: {فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ} أي أن هؤلاء المشركين اللاهين الغافلين، الذين أعماهم الضلال عن الآخرة، وعن العمل لها، وعن ذكر اللّه ذكرا خالصا- هؤلاء يظلون سادرين في لهوهم وشركهم، حتى إذا ركبوا في الفلك، واستشعروا الخطر، ذكروا اللّه، وفزعوا إليه، وأسلموا وجوههم له، مخلصين له الدين، لا يذكرون وجها من وجوه آلهتهم، ولا يهتفون باسم معبود من معبوداتهم فإذا خلصوا من البلاء، ونجوا من الهلاك، ولبستهم الطمأنينة- عادوا إلى ما كانوا فيه من شرك، ونسوا ما كان منهم للّه من دعاء ومواثيق!! وهكذا المشركون في الآخرة، يوم يلقاهم العذاب، وتفتح لهم أبواب جهنم.
هناك لا يجرون لآلهتهم ذكرا على ألسنتهم، بل يذكرون اللّه وحده، طالبين الغوث من هذا البلاء العظيم، قائلين: {رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ}.
وأنّى لهم الخروج وقد دانهم الديّان بما كانوا يعملون؟: {قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} [108: المؤمنون].
قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
اللام في {ليكفروا} وفى {ليتمتعوا} هى لام التعليل.. وهو تعليل لسؤال يرد على قوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ!} والسؤال الوارد هنا هو: لم لم يهلكهم اللّه في هذه الدنيا؟ ولم لم يعجّل لهم العذاب بشركهم هذا؟ ولم نجاهم اللّه سبحانه من الغرق، ولم يدع يد الغرق التي امتدت إلى سفينتهم تدفع بها وبهم إلى لجة الماء، فيبتلعهم اليمّ؟.
والجواب: {لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا} أي ليأخذوا فرصتهم كاملة في الكفر بهذه الآيات التي تطلع عليهم من آثار قدرتنا، وليتمتعوا بما بقي في آجالهم المقدورة لهم، من أيام.
وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين الذين لم تزدهم آيات اللّه إلا ضلالا، ولم تزدهم نعمه وآلاؤه إلا كفرا.. وأنهم إذا كانوا اليوم في غفلة عن مصيرهم الذي هم صائرون إليه، فسوف يعلمون علم اليقين، هذا المصير، وسيصلون عما قليل إلى ما أعد اللّه لهم من عذاب أليم.
هذا وقد قرىء قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا} يسكون اللام في {وليتمتّعوا} وهذا يعنى أن الأسلوب أمر، يراد به التهديد والوعيد.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}.
هو استفهام إنكارىّ، ينكر فيه على هؤلاء المشركين كفرهم بآيات اللّه، وجحودهم النعم التي يعيشون فيها من فضله وإحسانه... فقد اختصهم اللّه سبحانه من بين العرب جميعا، بهذا البلد الحرام، الذي ألقى في قلوب العرب جميعا توقيره، وتوقير ساكنيه.. وبهذا عاش هؤلاء المشركون في ظل هذا البلد الحرام، آمنين لا ينالهم أحد بسوء، على حين يعيش الناس من حولهم، في خوف وفزع، وفى بغى وعدوان، لا يأمن أحد على نفسه، وأهله وماله، من أن تطلع عليه في أية لحظة، عاصفة تأتى على كل شى ء!.
هكذا الحياة في هذه الغابة التي لا يتعامل فيها ساكنوها إلا بالظفر والنّاب، ما عدا هذه البقعة المباركة منها، فقد حماها اللّه، وحمى أهلها من كل عادية.. {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [4: قريش].
أفلا يرى هؤلاء المشركون تلك النعمة الجليلة؟ ألا يذكرون فضل اللّه عليهم بها؟ ألا يخلصون له العبادة؟ ألا يتركون عبادة هذه الدّمى التي شوّهوا بها وجه هذا الحرم، وجعلوها أندادا للّه؟ {أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}؟ ألا ما أسخف عقولهم، وما أخفّ أحلامهم! قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ}.
وإن هؤلاء المشركين لظالمون معتدون، بل إنهم لأشد الناس ظلما وأكثرهم عدوانا.. إنّهم افتروا على اللّه الكذب، فخلقوا هذه الدّمى، وأعطوها ما شاءوا لها من أسماء، وجعلوها آلهة يعبدونها من دون اللّه، وقالوا: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى}.
ثم إنهم حين جاءهم رسول اللّه، يكشف لهم وجه هذا الباطل، ويفضح هذا الزّور، ويقيم لهم طريقا إلى اللّه، قائما على الحق- كذّبوه، ولم يقبلوا الهدى الذي معه.. إن ذلك جرم غليظ، لا تتسع له أية عقوبة في هذه الدنيا، وإنه ليس إلا جهنّم ونكالها، وبلاؤها، جزاء يجزى به هؤلاء الكافرون.. {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ}؟
وبلى.. إن فيها لمكانا لكل من كفر باللّه، وكذّب بآيات اللّه.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
بهذه الآية الكريمة تختم السورة... فيلتقى ختامها مع بدئها، ولقد بدئت السورة بإيذان المؤمنين بالابتلاء، وملاقاة الفتن على طريق الإيمان، وأن استمساك المؤمن بإيمانه يقتضيه جهادا وتضحية، بالنفس والمال، والأهل والولد، والوطن، وكما يقول سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} كما يقول سبحانه في آية أخرى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [186: آل عمران].
وهذا الختام الذي ختمت به السورة، هو وعد كريم من اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين الذين يجاهدون في سبيل اللّه، ويحتملون ما يلقاهم على طريق الجهاد من ضرّ وأذى- أن يهديهم اللّه، ويثبّت أقدامهم على سبيله... لأنهم سعوا إلى اللّه، فتلقاهم اللّه بإمداد عونه، وتأييده، ونصره، فكان لهم الغلب، وكانت لهم العزّة في الدنيا، وجنات النعيم في الآخرة.
وفى قوله تعالى: {جاهَدُوا فِينا}.
.. إشارة إلى هذا الجهاد الذي يجاهده المؤمن، وأنه جهاد للّه، وفى سبيل اللّه، وإعزاز دينه، ونصر كلمته.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [40: الحج].
ومعنى الجهاد في اللّه، الجهاد في كل ما هو للّه- مما جعله حمى له، جل شأنه.
وفى توكيد الفعل {لنهدينّهم} توكيد لوعد اللّه، وأنه وعد أوجبه اللّه سبحانه على نفسه، كما يقول سبحانه: {وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [47: الروم] وفى قوله سبحانه: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} تطمين لقلوب المؤمنين، وإشعار لهم بأن اللّه معهم، بعزته وقوته، وسلطانه.. ومن كان اللّه معه، فهو في أمان من أن يذلّ أو يهون: {أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [22: المجادلة] وفى وصف المجاهدين في سبيل اللّه بأنهم محسنون، إشارة إلى أن الجهاد في جميع صوره، هو إحسان، وأن المجاهد محسن، لأنه يأخذ طريق الإحسان، ويسلك مسالكه، على حين أن غير المجاهد مسىء، لأنه يركب مراكب الضلال، ويهيم في أودية الباطل... فحيثما كان الإنسان مع اللّه سبحانه وتعالى، فهو في جهاد.. فإذا قهر المرء أهواء نفسه، ووساوس شيطانه، فهو مع اللّه، وفى جهاد في اللّه... وإذا انتصر الإنسان لمظلوم، فهو مع اللّه وعلى جهاد في سبيل اللّه... وإذا قال المرء كلمة الحقّ، وردّ بها باطلا، وسفّه بها ضلالا، فهو مع اللّه، وفى جهاد في اللّه.. وإذا حمل المرء سلاحه، ودخل الحرب تحت راية المجاهدين فهو مع اللّه، وفى جهاد في اللّه.
إن سبل الجهاد كثيرة، وميادينه متعددة... بالقول، وبالعمل، باللسان وبالسيف، ولعلّ هذا هو السرّ في جمع السبيل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا}.
فهناك أكثر من سبيل يصل به المؤمن إلى اللّه... لأنها جميعها قائمة على الحق، والعدل، والإحسان وصدق اللّه العظيم.

1 | 2 | 3 | 4